Tip:
Highlight text to annotate it
X
أتمنّى للكثيرينَ أن يعيشوا هذهِ التجربةَ
أن يجدَ المرءُ نفسَهُ خارجَ عالمِهِ
ولا أقصِدُ بذلكَ خارجَ بلدهِ
بل خارجَ المحيطِ الذي اعتادَ عليه
وأن يغوصَ في عالمٍ مختلفٍ كلياً
وأن يعيشَ في هذا العالمِ المختلفِ تجربةَ أن يكونَ هو الغريبُ
وعندئذٍ سيتعلّمُ أنْ ينظرَ إلى الغرباءِ بطريقةٍ مختلفةٍ أيضاً
إنَّ رسالةَ المونسنيور بيار كلافري تدفعُنا الى التساؤلِ
فحياتُهُ وموتُهُ يُلقيانِ الضوءَ
على مسألةٍ بالغةِ الأهميةِ متمثلةً بلقاءِ هذا "الآخرَ" المختلِفِ عنّا
فقد كتبَ : "أنّ الناسَ من كلِّ
كلِّ الأعراقِ والثقافاتِ
والأديانِ وأينما كانوا، هم مدعوّونَ أكثرَ فأكثر إلى التعايشِ معاً
فحيثُ تتواجدُ مجموعاتُ الناسِ جنباً إلى جنب من دونِ أنْ تتواصلَ
يصبحُ هناك العنفُ أمراً محتملاً
إذْ تبرُزُ حالاتُ سوءِ التفاهمِ وتنمُوَ
وسطَ الجهلِ والازدراءِ
ومن المُلِحِّ بالتالي أنْ نعملَ على جعلِ التلاقي ممكناً
وسطَ جوٍ من الاحترامِ والثقةِ
وُلِدَ بيار كلافري في 8 أيارَ 1938 في مدينة الجزائرِ
في حيِّ بابِ الواد
وسطَ عائلةٍ فرنسيةٍ مقيمةٍ في الجزائرِ منذُ أربعةِ أجيالٍ
منحهُ تضامنُ عائلتِهِ توازناً سواءَ على الصعيدِ الإنسانيِّ أو الروحيِّ
فورثَ عن والدتهِ فرحَ الحياةِ
وعن والدهِ الجانبَ الحازمَ
وطوالَ ما يقارِبُ 40 عاماً، وبانتظامٍ مثيرٍ للدهشةِ
وعلى الرُغمِ من المسؤولياتِ الكبيرةِ التي كانت تترتَّبُ عليهِ،
ظلَّ على تواصُلٍ أسبوعيٍّ مع عائلتهِ
مشاركاً إياها كافةَ تفاصيلِ حياتهِ
وردودِ فعلهِ إزاءَ الأحداثِ المًستَجِدّةِ
كما وتفاصيلِ إيمانِهِ وصلاتِهِ وحياتِهِ الرهبانيةِ
انضمَّ إلى الرهبنةِ الدومينيكانيةِ وعُيِّنَ أسقفاً على وهرانَ
قبلَ أن يتعرّضَ للقتلِ في اغتيالٍ في العامِ 1996
وتوُفِّيَ معه محمد بوشيخي، صديقُهُ اليافعُ المسلمُ
الذي كانَ قد أتى ليُقِلَّهُ منَ المطارِ
فكانَ أنْ استوحى
الأخ الدومينيكاني آدريان كانديار منْ هذهِ الصداقةِ
فكتبَ النّصَ المسرحيِّ "بيار ومحمد"
وهو عرض فردي حيثُ يؤدِّي الممثلُ نفسُهُ دورَ الشخصيتينِ واحدةً تلوَ الأخرى
وهكذا وعِبرَ تردادِ نصوصٍ من المونسنيور كلافري
وعِبْرَ تأليفِ حوار لمحمد
رمى هذا العملُ المسرحيُّ الذي تمتْ تأديتُهُ أكثرَ منْ 800 مرةً
إلى الإشادةِ بالصداقةِ التي ربطتْ بيار كلافري بالمسلمينَ والجزائريينَ.
صداقةٌ ذهبتْ حتى النهايةِ
تَرَعْرَعَ بيار، هذا الفرنسيُّ الصغيرُ في الجزائرِ
ولا أفهمَ كيف تمكّنَ أن يُحبَّ هذهِ البلادِ
لا أفهمُ كيفَ يمكِنُهُ أن يحبَّها
عندما يراها هكذا اليَوم
وكيفَ يمكنُهُ أن يحبَّها إلى درجةٍ ألاّ يتْرُكَنا
وألاّ يعودَ إلى فرنسا؟
كيفَ يمكنُ للمرءِ أن يحبَّ بلداً مريضاً
يعانِيَ ويؤذيَ ذاتَه بذاتِهِ؟
وبالنسبةِ إليَّ هذا هو لُغزُ بيار
الأسقف بيار كلافري صديقُ للجزائريينَ
ربّما لأنّني كنتُ أتجاهلُ الآخرَ
أو أَنْفِيَ وجودَهُ
أتى في يومٍ منَ الأيامِ
ليؤكِّدَ لي حضورَهُ
فأصبحَ بُروزُ الآخرِ
وإقراري بوجودِهِ
وتأقْلُمي معهُ
شاغِلي الوحيد
وهذا هو على الأرجحِ أصلُ دعوَتي الدينية
الآخر هو السؤال الكبير حياته في نهاية المطاف
حيثَ إنّهُ عاشَ في السنواتِ السبعِ عشرةَ الأولى من شبابهِ
بجانبِ الآخرِ من دونِ أن يراهُ
الآخرِ المسلمِ والجزائريِّ
وبدأَ ينمُو عندما غادرَ في سنِّ الثامنةِ عشرةِ
الجزائرَ العاصمةَ ليتابعَ دراستهُ الجامعيةِ في فرنسا، في غرونوبل
وكانتْ مغادرَتُهُ للجزائرِ بمثابةِ جُرح عميقٍ بالنسبةِ إليهِ
فقد انتقلَ من بيئتِهِ الأصليةِ
المطلَّةِ على حوضِ المتوسط ِالحارِ
وصل في غرونوبل وقال
الطقسُ ممطرٌ طوالَ الوقتِ هنا
كما واضطرَّ أن يتواجَدَ في جامعةٍ يطغى عليها الطابَعُ السياسيُّ
حيثَ واجهَ تناقضاً ما بينَ جهلِهِ للواقعِ الاستعماريِّ وما بينَ الطلابِ الشبابِ
وحتى الأساتذِةِ الذين كانَ لديهِمْ كلُّهُم مواقفَ سياسيةٍ
وهذا ما دفعهُ إلى سلوكِ مسارٍ داخليٍّ
حيكّتْ فيهِ في الوقتِ عينهِ دعوتُهُ الدينيةُ
ودعوتُهُ الإنسانيةُ إلى النموِّ الشخصيِّ
انضمَّ الى الرهبنةِ الدومينيكانيةِ
وَسِيمَ كاهناً، وقَبِلَ العودةَ إلى الجزائرَ
في الوقتِ الذي كانَ على أغلبيةِ الأوروبيينَ
المقيمينَ منذَ أكثرَ من 150 عاماً على الأرضِ الجزائريةِ
مغادرتُها.
فعَبَرَ ما يقاربُ مليونُ شخصٍ من المدعوّينَ "الأقدامِ السوداءِ"
البحر الأبيض المتوسطَ في ظلِّ ظروفٍ غالباً ما كانت قاسيةً
ثم نالتْ الجزائرُ استقلالَها في العامِ 1962
بعد أربعُ سنواتٍ من الصراعِ ما بين جبهةِ التحريرِ الوطنيِّ
والجيشِ الفرنسيِّ
وهوَ صراعٌ أودى بحياةِ الكثيرينَ
وتخلَّلَه اغتيالاتٌ وأعمالُ تعذيبٍ ومجازرُ
سواءَ في الجزائرَ أو في فرنسا
فشهدَتِ الكنيسةُ الجزائريةُ أيضاً حالةً من الاضطرابِ
حيثُ باتَتِ الكنائسُ شبهَ فارغةٍ بين ليلةٍ وضُحاها
بيار كلافري موجود في الجزائر
وعاشَ هذه الفترةَ الحافلةَ بالتغيّراتِ
كان مقرّباً جداً من المونسنيور تيسييه الذي كانَ أسقفَ وهرانَ آنذاك
فقامَ إلى جانبِ هنري تيسييه وآخرينَ
بعملهِ كباحثٍ متخصصٍ في المسائلِ اللاهوتيةِ
مرافقاً الكنيسةَ التي كانَ يتعيّنُ عليها
أن تجدَ معنىً لوجودِها
وسطَ شعبٍ مسلمٍ بأغلبيتِهِ
وإذا لم يكن يكمن دور الكنيسةِ في التبشيرِ باعتمادِ المنطقِ القائل
"أنا هنا لأغيّرَ الآخرَ" فما كان إذاً؟
وهنا يجدُرُ التفكيرُ جداً
في إقامةِ الصداقاتِ كما وفي الشهادةِ ومرافقةِ الآخرِ
انخرطَ بالكاملِ في مشروعِ كنيستِنا
مع هذه الفترة من الكاردينال دوفال، التي وضعت لنا في هذا الاتجاه،
كما وعلى عهدِ المجمعِ الفاتيكاني الثاني
أن تكون الكنيسة التي يومئ في المجتمع في المجتمع.
وأعتقدُ أنَّ الكنيسةَ الجزائرية
تأثّرتْ بكونِها أقليةً
حيثُ عددُ المسيحيينَ كاثوليك وبروتستانت وإنجيليين
إذا كنا 30،000 بين 40 مليون نسمة، هذا كل شيء.
تعلّمَ بيار كلافري اللغةَ العربيةَ مع راهباتِ القلبينِ الأقدسينِ اللبنانياتِ
ودرسَ عن الإسلامِ
وحاكَ روابط الصداقةِ مع الكثير من الجزائريينَ المسلمينَ
عين مديرًا للقلسين المركزِ الأسقفي للدراسات و الأبحاث في العامِ 1973 في الجزائر
حيثُ راحَ يُعلّمُ الجزائريينَ اللغةَ العربيةَ بنفسهِ
تمَّ تعيينهُ أسقفاً في وهران في العامِ 1981
تلوَ المونسنيور تيسييه
ومعَ كلِّ مسؤولياتهِ هذه
لم يراوحْ رغبتَهُ في أنْ يبقى راهبا
ولم يتخلَّ عن خدمةِ التبشيرِ الدومينيكاني
أمضى عطلاتِهِ وهو يعظُ رياضاتٍ روحيّةً
وكانَ يكتبُ كلَّ شهرٍّ المقالَ الافتتاحيَ في نشرةِ أبرشيةِ وهران
مشاركاً بنشاطٍ في الحياةِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ في الجزائر
هنا برهنَ من جديدٍ عن إبداعِه الكبيرِ
إذْ أنّ كنائسَنا فارغة
وأنّنا لمْ نعُدْ بحاجةٍ إلى بيوتِ الكهنةِ في الرعايا
فقالَ عندئذٍ: "هذا أمرٌ مذهلٌ!
يمكنُنا أنْ نحوّلها إلى منابرَ للخدمةِ والتلاقي
وكانتْ هذه وصفتَهُ: منابِرٌ للخدمةِ والتلاقي
أيْ بدلاً منْ أنْ يشكوَ ويَئِنَّ بشأنِ أنّنا لمْ نعُدْ كثيرينَ
قَلَبَ الوضعَ وحاولَ أنْ يستخلصَ منْهُ جانِباً إيجابياً
كانَ يقولُ لنا دائماً
إنَّ ما يكلّفُ أكثرُ هوَ الخطوةُ الأولى
وأكثرُ ما أتذكرُهُ منْ أقوالِهِ هوَ "الخروجُ منَ الذاتِ"
إذْ كانَ يقولٌ لنا إنَّهُ يجدُرُ بنا الخروجُ منْ ذاتِنا
يجدرُ بنا أنْ نفتحَ بابَنا وأنْ نخرجَ من ذاتِنا.
والكلمةُ التي نقلَها كانتْ إشارة ًفوريةً
لمفكري وهران
بأنَّهُ ليسَ أسقفاً مسؤولاً فحسبْ
عنْ الطائفةِ المسيحيةِ في غربِ الجزائرِ
بل هوَ مفكّرٌ في المجتمعِ الجزائري
وفي تطورِ العالمِ أيضاً
فهوَ مؤمنٌ قادرٌ على تسليطِ الضوءِ على هذا التفكير
ليسَ من خلالِ هويتِهِ المسيحيةِ فحسبْ
بلْ منْ خلالِ ما كانَ يعيشُهُ العالمُ العربيُ المسلمُ أيضاً.
في ظلِّ تجربةِ الانغلاقِ هذه
هذه ومنْ ثمَّ أزمةِ بروز الفردِ
تطوّرتْ القناعةُ الشخصيةُ
بأنّهُ ما منْ إنسانيةٍ سوى في الجماعةِ (التعدديّةِ)
فما أنْ نزعمَ أنّنا نتحلى بالحقيقةِ
أو نتكلمُ باسمِ الإنسانيةِ
وقدْ خُضْنا في الكنيسةِ الكاثوليكيةِ هذه التجربةَ المحزنةَ على مرِّ تاريخِنا
نقعَ في فخِّ الاستبدادِ والتهميشِ
فلا أحدٌ منّا يملكُ الحقيقةَ
كلٌّ منّا يبحثُ عنْها
نحنُ لا نملكُ الله
ولا نملكُ الحقيقةَ
وأنا بحاجةٍ
أنا بحاجةٍ إلى حقيقةِ الآخر.
هو ثابتٌ في معتقداتِه، وهوَ مسيحيٌّ
وأسقفٌ ولاهوتيّ
وهوَ مؤمن بأنّ المسيحَ يمنحُهُ ملءَ الوصول إلى الله
ولكنْ، ما يقصدُهُ هوَ أنَّ الفهمَ الذي نتحلّى بهِ
في مسيرةٍ دائمةٍ
وما دُمنا نسلكُ هذه الطريقْ
ربّما أن نلقيَ نظرةً على مسيرةِ الآخرينَ أيضاً
والملفتُ هوَ أنّه يبيّنُ لنا
أنَّ المسلمَ الذي يسيرُ بالقربِ منهُ
يقدّمُ لهُ أيضاً ثماراً في سعيهِ لمعرفةِ الله
عندما أعيدُ التفكيرَ في تاريخِ الخلاصِ
وطريقةِ توجيهِ اللهِ لشعبِه
لمْ يكنْ الأمرُ يوماً إمّا كل شيء أو لا شيء
ولمْ يكنْ الأمرُ يوماً نعمْ أو كلاًّ
لمْ يكنْ الأمرُ ثنائي
بلْ هوَ دائماً مرافقةٌ
ومسيرة،
وذلكَ ينطبقُ حتّى في مرافقةِ المسيحِ لتلاميذهِ
فهوَ لمْ يطرحْ عليهِم في البدءِ سؤالٌ
"هلْ تعترفونَ إنّي أنا المسيح؟
إذاً أنتمْ تلاميذي
لا بلْ دعاهُم شيئاً فشيئاً
وطلبَ منهمْ تدريجيًّا التعرّفَ إليهِ
وهكذا قادهُم إلى معرفةِ أنّهُ المسيح
وبالتالي، يُمكنُ أنْ تُتَرجَمَ هذه المرافقةُ في الصداقةِ
والأخوّةِ وطرحَ الأسئلةَ المتبادلةَ
وبحثي أنا أيضاً كمسيحيّ
عنْ كيفيةِ تعمّقي أكثرَ في المسيح
وتنطوي مسؤوليةُ المسيحيينَ بالنسبةِ إليَّ
على الإعلانِ عن إيمانهِم
معْ الإصغاءِ في الوقتِ عينهِ إلى الأسئلةِ المطروحةِ من قبلِ الإسلامِ والمسلمينَ
وتبديدِ الأفكارِ المسبقةِ
وبناءِ أرضيةٍ مشتركةٍ
أقلهُ على المستوى الإنساني في هذا الانفتاحِ تجاه الله
إنّهُ لا يمكنُ لزمنِ الحوارِ أنْ يبدأَ بعدَ
هذا ما قاله لي
لأنّهُ قبلَ أنْ يحينَ زمنُ الحوارِ
يجبُ أن يأتيَ زمنُ الصداقةِ
الصداقةِ....
هذه الصداقةُ التي تسمحُ بالتحدثِ بصدقٍ
وبإصغاءٍ
حديثاً لا ينفي الآخرُ في محاولةٍ لإقناعهِ
هذا ما أتى ليعيشهُ في الجزائر
لقد حانَ الوقتُ وهوَ ملحٌّ
إذْ لطالما كانتْ
العلاقاتُ بينْ المسيحيينَ والمسلمينَ بشكلٍ خاصٍ مثيرةً للنزاعاتِ
منذُ بدءِ تاريخهِما معاً
وبرأيي يجبُ إلقاءُ نظرةً على التاريخ
وأخذَ العلمُ بالصعوباتِ التي نواجهُها
في فهمِ بعضِنا البعض، والتفاهمِ والتعايشِ
ومع ذلكَ
وبما أنّ هذه الصعوباتِ تتزايدُ في هذه السنواتِ الأخيرةِ
هناكَ حاجةٌ ماسةٌ إلى أنّْ يتكرّسَ رجالٌ ونساءٌ ذوي إرادةٍ صالحةٍ
ربّما ليسَ لفتحِ حوارٍ مسلمٍ – مسيحيٍ
بمعنى أن يتناولَ هذا الحوارُ أولاً العقائدَ
وفهمَ النصوصِ
أو تفاصيلَ إيمانِ الواحدِ الآخر
بلْ لتجديدِ اللقاءِ
ومحاولةِ التلاقي بطريقةٍ سلميةٍ
وهذا ما نحاولُ أن نفعلهُ هناكَ
هذه رسالةُ كنيستِنا
لمْ يكن لبيار كلافري رؤيةٌ مثاليةٌ عنْ الإسلامِ
على عكسِ ما كانَ يراهُ بعض الباحثونَ المتخصّصونَ في دراسةِ الإسلامِ
كانَ يحبُّ أنْ يقولَ، مثلي و مثل آخرين
" نحنُ لا نلتقي بالإسلام، بلْ نحنُ نلتقي بالمسلمينَ "
وهذا الأمرُ مهمٌّ جدًا
فالإسلامُ هو أمرٌ نظريٌّ أمّا المسلمونَ فهم موجودونَ فعلاً.
علاوةً على ذلكَ، فالمجمعُ الفاتيكانيُ الثاني
في بيانهِ المعَنوَن "في عصرِنا" Nostra Aetate
لا يتحدّثُ عن الإسلامِ، بلْ اِنهُ يتحدثُ عنْ المسلمينَ
إذا كنّا نؤمن حقاً بأنَ اللهَ قد وهب نفسَه
وأظهرَ نفسَهُ، وتكلمَ، ووضعَ نفسَهُ في علاقةٍ
معْ الواقعِ الإنساني، معْ واقعِ العالمِ
فهوَ بذلكَ يدعو كنيستَهُ للقيامِ بالشيءِ نفسهِ
عبر بولس السادس عن هذا الواقع في رسالته العامة المدعوة "كنيسته" Ecclesiam Suam
لم يذكر خلاف ذلك هذا الواقع
فقالَ إنَّ " الكنيسةَ تجعلُ من نفسِها حوارًا مع العالم."
هذه طبيعتُها، هذه مهمّتُها
فهيَ مدعوّةٌ ان تدخلَ في محادثةِ
أيٍّ كان في حوار
هذا ما يعرّفُ الواقعُ المسيحي
بما أنَّ كلمةَ الله تسكنُنا
فكلمةُ اللهِ ليست سوى هذا الحوارِ الحميمِ باللهِ
الّذي أصبحَ ممكناً منْ خلالِ الروح
عاشتْ الجزائرُ من العام 1991 الى 2002 "عشرية سوداء"
تمَّ حجبُ العملية الانتخابية من قِبل الجيش
لمنعِ وصولِ الإسلاميّينَ الى السلطةِ
الذينَ حصلوا على أغلبيةٍ كبيرةٍ
قرّرَ الإسلاميّونَ حينَها بالانخراطِ في كفاحٍ مسلّحٍ
فبدأتْ مظاهرُ العنفِ والإغتيالاتِ تتجلّى
والّتي طالتْ خاصةً ممثلي المجتمعِ المدني:
عناصرُ الشرطةِ والقُضاةِ والأئمةِ المعتدلينَ والسياسيينَ
والمعلمينَ والصحافيّينَ والمطربينَ
وطالتْ بعدَها الأجانب
إنَّ الإسلامَ الجزائريَ التقليديْ هو إسلامُ الأخُوّةِ، إسلامُ التفاني
لكنَ التعريبَ، الذي حصلَ بعدَ الاستقلالِ
على يدِ أساتذةٍ منَ الشرقِ الأوسط
نشرَ أفكارَ الإسلامِ المتطرف
فوجدَتْ هذه الأفكارُ أرضاً خصبةً
بسببِ فسادِ السياسيّينَ و بسبب الفَقر
وشقَّ الإسلامُ المتطرفُ طريقَه إلى المساجدِ والقلوبِ
إنَّها أزمةٌ جيوسياسيةٌ، هي أزمةُ هوية
وأزمةٌ دينيةٌ، أزمةُ المنطقةِ
وهي أزمةُ الدينِ الإسلاميّ الذي يلتقي أيضاً بالحداثةِ بشكلٍ آخر
وكما أيُّ أزمةٍ
يمكنُ أن تؤدي إلى تغيّرٍ، وتحوّلٍ
على غرارِ أزمةِ المراهقةِ التي تجيز بلوغَ سنِّ الرّشدِ
أو أنْ تؤدّيَ إلى أزمةِ توتّر
حيثُ نلجأُ إلى الماضي لأنَّنا نخافُ منَ التحوّلِ
ونخافُ منَ الانفتاحِ.
منذُ العامِ 1991-1992
أيْ منذُ تطورِ العنفِ الاسلاميّ
اختلفتْ اللّهجةُ قليلاً.
فأصبحتْ " للآخرِ هويةٌ لا أدركُها أنا
وعليَّ أنْ أعرفَ كيفَ أتعاملُ معهُ أمامَ مقاومتهِ لي"
لا يمكنني أنْ اقترحَ على المجتمعِ المسلمِ
أنْ يمشيَ طريقَ التجديدِ الدّاخليّ والروحيّ
الّذي يقومُ بهِ المجتمعُ المسيحيّ منذُ المجمعِ الفاتيكاني الثاني
وحتى منذُ خمسينَ عاماً
فلهذا التقليدِ الدينيّ تناغماتٌ خاصةٌ بهِ
منذُ بدايةِ المأساةِ الجزائريّةِ
كثيراً ما سُئِلتُ
ماذا تفعلُ هناكَ؟
لماذا تبقى؟
إنفضِ الغبارَ عنَّ نَعْلَيْكَ
وعُدْ إلى موطنكَ !
إلى موطنكَ...
أينَ هوَ موطننا؟
نحنُ هناكَ بسببِ هذا المسيحِ المصلوب
بسببِهِ هوَ فقطْ ولا أحدَ آخر!
نحنُ هنا
مثلما نكونُ بالقربِ منْ صديقٍ
من شقيقٍ مريض
بصمتٍ
نشدُّ على يدهِ
ونمسحُ لهُ جبينَهُ
لأنَّ يسوعَ هوَ الّذي يعاني هُنا
في أعمالِ العنفِ
التي لا تستثني أحداً
هوَ الّذي يصلبُ مرةً أخرى في جسدِ الآلافِ منَ الأبرياء
أينَ ستكون كنيسةُ يسوعِ المسيح، هي نفسُها جسدُ المسيح
إذا لمَ تكنْ هنا أوّلا؟
اعتقدُ انَّها تموت
منْ عدمِ قربِها كفايةً
منْ صليبِ ربِّها.
أعتقدُ أنَّ المسيحَ قدْ وقفَ تحديداً على خطوطِ تمزقِ الإنسانيةِ
حيثُ هناكَ الرفضُ والتعصبُ وانقطاعُ العلاقاتِ
سواءَ كانتْ خطوطُ التمزقِ داخلَ الإنسان
المرضُ، والبؤسُ، والوحدةُ، والرفضُ
أمْ كسورٌ بينَ الجماعاتِ البشرية
الفريسيّ والعشَّار على سبيلِ المثال
أو اليهوديّ وغير اليهوديّ
أوْ عنْ المؤمنِ وغيرِ المؤمنِ
لذلكَ وقفَ يسوعُ هنا،
ولمْ يفعلْ الكثيرَ غيرَ أنْ يقفَ هنا
هذه هيَ الصورةُ الأخيرةُ التي أعطاها يسوع في حياتِه
صورة رجلٍ ممزقٍ لشطرين
حيثُ يدٌ نحوَ الداخل، ويدٌ نحوَ المستبعَد
يضعُ تلاميذُه على نفس هذه الخطوطِ الفاصلةِ
معَ مهمّةِ الشفاءِ والمصالحةِ نفسِها
فالكنيسةُ تنجزُ دعوتَها ورسالتَها
عندما تكون حاضرة في الإضطرابات
الّتي تصلبُ الإنسانيةَ في جسدِها وفي وحدتِها
لماذا البقاءُ هنا؟
وأجابَ بيار:
« حتّى ولو كانَ بسببِ حياةِ إنسانٍ واحدٍ مثلَ محمد
يستحقُّ الأمرُ المخاطرةَ بحياتِهِ. "
يعلمُ جيّداً أنَّهُ سيموت
كيفَ يمكنُ لعاصفةِ النارِ الّتي تضرِبُ الجزائرَ
والتي لم يَسْلَم منها حتى هؤلاء الرهبان في الجبال
أن تمرَّ من دونِ أن تأخذَ معها هذا الصوتَ القويَّ
الّذي يتحدَّثُ على الإذاعةِ
وحتى على شاشةِ التلفزيون؟
إذا لا بدّ من أنْ يموتَ بيار
اسمحْ لي أنْ أكونَ معهُ في ذلك الوقت
سيكونُ من المحزنِ جداً ألاّ يكونَ مع بيار
هو الذي يحبُّ جداً الصداقةَ
صديقاً
يرافقُهُ في
وقتِ وفاتِه
كانت وفاةُ المونسنيور كلافري
وابني محمد
علامةَ سلامٍ
سلامٍ وأخوّةٍ
دماؤهمْ أجسادُهُم
قد اختلطتْ وتمزّقَتْ
اختلطا معا،
ودُفِنا معا
إنّها علامةٌ من الله أننا جميعُنا أبناءَه
أكُنّا مسيحيينَ أو مسلمينَ
هذه هي علامةُ السلامِ والأخوّةِ
في الأوّل من آب / أغسطس 1996
رافقَ محمد بوشيخي صديقَهُ
إلى داخلِ المطرانيةِ
وكانت بانتظارهِما قنبُلةٌ
في جنازةِ المونسنيور بيار كلافري
أتى الكثيرُ من المسلمينَ لتكريمِه
فهو آخرُ من قُتِلَ
منْ بينِ تسعة َ عشرَ راهباً وراهبةً قد اغتيلوا في الجزائر
من بين مئةٍ وخمسينَ ألفَ قتيلٍ، ضحايا العشريةِ السوداء.
فالكنيسةُ الّتي عاشتْ هذه المأساةَ مع الجزائريّينَ
أصبحتْ آنذاكَ
"الكنيسةَ الجزائريّة "
هذه هي كلماتُ الأغنيةِ العربيةِ:
نشهدُ أن لا وجودَ إلاّ منْ محبة
نشهدُ أن لا حياةَ إلاّ بالمحبة
نشهدُ أن لا إنسان إلاّ للمحبة
نشهدُ أن لا إلهَ إلاّ المحبة
لقد تمّ اغتيالُهُ.
كان الأمرُ فظيعاً
أرادوا إغلاقَ فمِهِ
لكنَّهُ هو يتكلّمُ الآنَ أكثرَ من قبْل
يبدو لي منَ الضروريِّ للغايةِ
في فرنسا، وحيثُما كان ذلك مُمكناً
أن يُقيمَ المسيحيونَ والمسلمونَ علاقاتِ ثِقةٍ وأخوّةٍ
وأنْ يُحاولوا فهمَ بعضِهِم البعضَ
لكي نتمكّنَ على الأقلْ حيثُ لم يعدْ الحوار مُمكِناً،
أن ننظُرَ إلى الخارجِ
ونأملَ في مستقبلٍ بين المسيحيينَ والمسلمينَ
منفتح.
هذا ما قالتهُ لنا إحدى الصّديقاتِ، أمُّ الخيرِ
عن حضورِ الكنيسةِ مع المؤمنينَ الآخرينَ:
" كونوا الحجرَ الصغيرَ
الّذي يمنعُ إغلاق باب الإسلامِ على نفسه".
أؤمنُ بأهميةِ الإلتقاءِ
أظنُّ أنّنا منْ خلالِ الناسِ
نفهَمُ الأشياءَ.
يُمكِننا قراءةَ الكُتُبَ، ولكنْ الأهمُّ
هو اللقاءُ مع الآخر.
هنا يكمُنُ دورُ أوروبا في العملِ
وأعتقدُ أنّهُ إذا لم تبقَ أوروبا منفتِحةً
أوروبا التي تتحلّى بالقيمِ
ستكونُ مُجبرةً هي أيضاً بالإنغلاقِ على نفسِها
وهذا ما تفعَلُهُ اليومَ
والّذي من الواضحِ سيولّدُ العنفَ
فالبديلُ الوحيدُ للعنفِ هو الإلتقاءُ.
يجب أن يكونَ لكلِّ شخصٍ صديقٌ مسلمٌ واحدٌ على الأقلّ
لأنهُ مع صديقٌ مسلمٌ
تملكونَ مفتاحاً صغيراً لدخولِ
واقعٍ لا تفهمونَهُ
واقعٌ يبدو لكمْ غريبًا، أو ربّما مُرعِباً
لذلك أعتقدُ أنّنا يَجِبُ ألاّ نخافَ، وأنْ نجرؤَ على قِيامِ صداقاتٍ.
من سفرِ أشعيا، الفصلُ خمسونَ، الآيةُ الرابعةُ والخامسةُ
الربُّ
أعطاني لسانَ التلاميذِ
لأُعِينَ المتعَبينَ بكلمةٍ
صباحاً فصباحاً ينبِّه أذُني
لأُصغِي إصغاءَ التلاميذِ
السيدُ الربُّ يفتحُ أُذُني
فلا أتمَرَّدُ وأرتَدُّ عنْهُ. "
بادرتَ يا ربُّ بمجيئكَ الينا في حينَ كنّا بعيدينَ عنكَ
إمنحنا يا ربُّ نعمةَ اللقاءِ معَ الآخرِ المختلفِ عنّا
والّذي يمكنُ أن يُخيفَنا
تعال وانزَع مِنا ومنهُ أي شكلٍ من أشكالِ العنفِ، والإنغلاقِ والاحتقارِ والكراهيةِ
نصلي من أجلِ الكنيسةِ الجزائريّةِ
كي تستمرَّ وتبقى علامةً على حبّكَ للجميع
ونوكِلُ إليكَ جماعةَ ال Chemin Neuf
وتواجُدَها في ديرِ تبحرين